الآن، ونحنُ على بُعدِ نشوةٍ من سنةٍ جديدة، وكعادتِكم، ستقفونَ وتبدأونَ بالعدِّ التنازليّ، وسنقفُ نحنُ أيضًا هذه المرّة، لكننا سنحتاج أكثر من دقيقتكم. لماذا تفرحون؟ فالحِدادُ له دقيقةٌ أيضًا، نريدُ الأيامَ التي مرّت دون أن نعبرَها كيّ نبكي.
فنحنُ حقًا نريد البكاء.
سأقولُ عن عامٍ مرَّ فوقَ جسدي، أنّي قضيتُ ثلاثَ حيواتٍ، مختلفةٌ في وجودي، متشابهةٌ في المدة.
ثلثُ عامٍ في الموتِ، وثلثٌ أبحثُ عنه، وأخيرٌ لم يجدني، لكنّي مِتُّ.
ماذا يعني أن تقضي حياةٌ لا تُشبهك هربًا من موتٍ يليقُ بكَ أكثر؟
هو سؤالٌ لم يتوقف عن الانصهار طيلةَ العام، حتى أيقنتُ أنّي ميّت، والجسدُ الذي ترونه هو لعنةٌ مملوءةٌ بالسخطِ تسيرُ فوقَ كوكبٍ كان ادّعائه المتاح دومًا أنّه إنسانيّ.
لي الآن رسائلٌ، سأنشرها بينكم، عنكم، إليكم ومنكم:
إلى العالم:
أنا قمحيُّ المنبت، وُلدت في شتلةٍ تُسقى بالزيتِ والزعتر، أفطرُ حبًا من قضمةِ الصّباح، وعينُ أبي كانت بستان الوجود.
أمي كلما ضحكت، تَفتَّحَ الأقحوانُ وقضى شهوةَ الصباحِ الذي أسعدها بالتمايلِ فوق كتفيّه.
أما عني، فلا شيء يُذكر، عَيني سوداويةٌ كالليلِ، يحيطها احمرارٌ من ارتباكه، وشمسي تسطعُ حينَ يكونُ الكون عادي.
مثلًا: سماءٌ زرقاءٌ، وطائرٌ يُغرِّدُ في الصباحِ أغنيةً لأنه حيّ، ومؤذنٌ ينادي على الصلاة، وديكٌ يعرفُ موعدَ الفجرِ، كيّ يصيح لنا أن الليلَ كساهُ الخجلُ وهرب.
كل هذا كان مثلًا، لا أعرف ما الذي وارب شمسي عن القدوم، لا أعرفُ غيرَ أنّي استيقظتُ ذاتَ مرةٍ، أعتقدتُ أنّه الصباح، لكنّي وجدتُ الديكَ قد قُتِل، فلم يعد هناكَ شمسٌ ولا سماءٌ ولا صباح.
إلى الإنسانية
كفرتُ بكِ مرّتين، وآمنتُ خلسةً بوجودك.
ذات يومٍ ومع الأصدقاء، أعلنتُ براءتي وإلحادي من وجودِ مصطلحاتِ الإنسانيّة هذه بعدَ قطفِ بستاني وموته.
لربما حينها كانتِ الاضطراباتِ الداخليّة تعمُّ رأسي، يفوحُ دخانٌ من الذكرياتٍ التي لا تنتهي. والثانيةُ حينما غابتْ الزرقةُ عن السماء، وكأنّها صارت بلا لونٍ يُرى، فقط أسمع منها صوتَ الموت.
ولنفسِ السببِ آمنتُ بكِ خلسةً، أبي مات ولي في الحياةِ تسعة عشرة سنة، وخضنا سويًا أربع غيابات للسماء. كم كان سيكونُ صعبًا عليه أن يحضرَ قيامتها الأخيرة. كان سيموتُ بلا شكٍ، وسأظلُّ كافرًا بكِ إلى الأبد.
هي فرصةٌ أُتيحتْ لكِ كيّ أدافعَ عنكِ ذاتَ يوم، لأقولَ
إلى العالم الإنساني: الإنسانيّةُ فقط أنّ هناكَ من ماتَ وقد قال الوداعَ، ومن لم يقله، هو حيٌّ لا يموت.
إلى الفناء
نعتّني ذاتَ يومٍ بالقمحةِ الشاردةِ من رحمِ الوجود، ولم أكترثْ.
سرقتَ مني أدواتَ السؤالِ كلّها وأبقيتني كما أنا حائرٌ.
أين الوجودُ في حضرتك، وكيفَ الحياةُ إن لم تكن أنتَ آخرها؟
إلى الفناءِ الخالد، أنتَ الباقي إلى الأبد، أخبرهم كم مرّةً سرقتَ الطفلَ من حضنِهم ولا تكذب، وأخبرهم عن أدواتِ السؤال التي في جعبتك، من، متى، كيف، ماذا، ولماذا، يموتُ طفلٌ في جعبتهِ كسرةَ خبزٍ وزعتر. أخبرهم أنّك لصٌ محتال، وأنّك آسفٌ، وأنظر لأعينهم جيدًا، وافحصها، ومُتْ بعدها دونَ ردٍ كيّ تبقى حائرًا مثلي تمامًا للأبد.
لن أُطيلَ رسائلي، فالعالمُ لم يعدْ يسمعها، وأنا مثلُ أيّ “انسان” فوق كوكبكم، سئمتُ إرسالَ الطيورِ المُحمّلةِ بالرسائل، فهي لا تصلُ إليكم ولا تعود.
